الأحد، 19 يناير 2014

المسكينة قصة قصيرة بقلم الأستاذ / عواد تمام


  • المسكينة " قصة قصيرة "
    بقلم الأستاذ / عواد تمام
     
    ‏‎Awad Tmam‎‏ 
     
    عجبا لتلك الحياة ! غنيها غني ، وفقيرها فقير ، قلما تمتد يد الغني ، ليأخذ بيد 
    الفقير إلا بمقدار ما يتبلغ به من ضرورات الحياة ، دون أن يفتح له بابا للغني
     فتتساوى الرؤوس ، حتى ليكاد الغني أن يقول أنا الغني لا أحد ، والسواد 
    الأعظم من الأغنياء يأنسون ويتطامنون برؤية الفقراء ، التي تشعرهم بالبينونة 
    الكبرى بينهم وبين هؤلاء الفقراء ، هكذا كان حوارها مع نفسها ، بالقطار الذي 
    يقلها صباحا من أحد أقاليم الوجه البحري إلى القاهرة ، فتتجاوب مشاعرها 
    الحزينة مع هزات القطار الذي يزحزحها يمنة ويسرة ، وهي جالسة على أرضية
     إحدى عرباته ، وتكاد تنكفئ على وجهها كلما توقف ، وترتمي على ظهرها كلما 
    اندفع إلى الأمام ، ما بال هؤلاء الناس الذين معي ، يتربعون على مقاعدهم لايفكر 
    أحدهم في جلوسي ، ولا تتحرك النخوة في شبابهم فيقوم أحدهم ويجلسني ، لعل 
    أحدهم كان يفعل هذا مع واحدة من الهوانم ذوات الأناقة ، حتى الواجب يميز 
    الناس فيه بين من بدت عليهم أمارات الغني على من ساءت أحوالهم مثلي ، ولم
     تذهبين بعيدا أليست بنتك قد حصلت على جائزة التفوق في الشهادة الإعدادية ، 
    فما أحد هنأها أو بارك لها ، بل أخذ الناس يلومون بناتهم لا على تدني مستواهن 
    بل على تقدم ابنتك عليهن ، قائلين لهن أهكذا تتفوق عليكن ابنة تلك المسكينة ؟
     وسرعان ما تلوح على وجنتيها ابتسامة الفرح فتميط اللثام عن ثغرها الجميل 
    وأسنانها البيضاء ، وكأنها مسحت بابتسامتها شقاء السنين ، كالثمرة الغضة 
    التي تروق للعين ، بعد غسلها من غبارالأرض ، وأدخنة الهواء ، وما كانت تلك
     الابتسامة سوى الأمل الذي تحلم به برؤية وحيدتها طبيبة ، لكم قالت لي معلمتها 
    ذلك ، ألم تصادفني تلك المعلمة ذات مرة في إجازة الصيف وتقول لي محذرة : 
    إياك أن تنسي سلامي للدكتورة ، وسرعان ما يعاودها خجل مستكثرة ومستعظمة
     ذلك الحلم الذي تحلم به ، وما هذا الخجل والحياء إلا أوبة سريعة من تطلع إلى
     ذروة المجد ورؤية لواقعها الحي الملموس ، ها هي تستعد فقد اقترب القطار من
     محطة مصر ، الركاب بدوا يتحركون ،يسحبون حقائبهم ، تنهض ، تتراجع ، 
    أنتظر قليلا حتى يخف الزحام ، تستجمع انتباهها ، بروية تنزل ، تسمع صوتا 
    محاذيا لها ، ساعديني يا ابنتي ، تنظر نحوه ، يناولها حقيبة صغيرة لتمسكها في
     يدها ، ما شأن هذا الرجل ؟ ولم لم يعطني شيئا ثقيلا أحمله عنه ؟ لعله أراد ألا 
    يشق علي ، مدت يديها لتحمل عنه مايستحق الحمل لكنه أبى ، تعجبت لأمره ، 
    مشيا فصادفا شرطيا يفتش المارة في المحطة لكنه تشاغل عنهما ، مشيرا بيده 
    أن تفضلا ، أحسست أنه يعرفه ، حتى إذا اقتربنا من البوابة الرئيسية للخروج 
    وجدتني أمام لجنة شرطية ، أشار علي الشرطي أن افتحي ما معك ، إن مامعي
     كيس به جلباب العمل ، وهذه الحقيبة ليست لي ، التفت لأناولها لصاحبها فلم 
    أره ، أخذها الشرطي من يدي ، فتحها ، قلب ما بداخلها ، أشار لاثنين من الجنود 
    فأمسكني أحدهما من معصم يدي اليمنى والآخر من اليسرى ، ارتعت مما حدث 
    لي ، غير أنهما اقتاداني لغرفة بها أربعة من رجال الشرطة ، على أكتافهم رموز
     وعلامات لا أميز بينها ، فالدهشة والقلق عطلا كل شيئ من فكري وإحساسي ، 
    وانتبهت هنيهة على صوت الجندي الذي معه الحقيبة وهو يقول : من أين هذا 
    الصنف ياحلوة ، انتابتني حالة من عدم الوعي ،والبكاء ، وفقدت قدرتي على 
    الكلام ، ابنتي ، ابنتي أين هي ؟ أريدها ، دعوني لابنتي ، استفقت قليلا ، هذه 
    الحقيبة ليست لي، لا أحد يصدقني . أوشكت الشمس أن تغيب عن أفق السماء ، 
    استبطأتها سيدة البيت التي كانت تنتظرها كعادتها أول النهار ، لتنظف لها 
    مسكنها ، وتعد لها مطبخها ، غير أنها عللت تأخرها بأن الخادمات ينتظمن في 
    أول الأمر ، ويتمسكن ، ثم يبدأن في الاعوجاج كعادتهن .تصبرت الفتاة عن
     تأخر أمها ساعة بعد ساعة ، خرجت تمد بصرها هنا وهناك حتى كل بصرها 
    من طول المتابعة ، لعل أمي تعبت عند سيدتها فعزمت على المبيت ، أو أنها 
    تأخرت فخشيت أن تعود وحدها متأخرة ، رجعت الفتاة إلى البيت تكتم أنفاسها 
    ولا تكاد تبين ، كيف لها أن تتكلم وأمها تعمل سرا لتوفر ضرورات الحياة ، فما 
    كان المعاش الذي تأخذه بعد زوجها ليفي بما تحتاجانه ، لابد أن تغلق فمها 
    عساها أن تعود ، لم تنم ، وكيف تنام دون أمها ومؤنستها في الدار ، شغلها 
    البكاء والتفكير وكادت تصرخ لولا 
    خشيتها من الفضيحة ، وهي التي تعلمت من أمها الصبر ، ولطالما كانت 
    توصيها وتربيها على عزة النفس ، تذكرت تلك الورقةالبالية ، التي كتب فيها
     عنوان تلك السيدة ورقم هاتفها ، لابديل إذن من أن أسر لأستاذتي التي تحبني 
     بما حدث ، أوشك نهار اليوم أن يتضح ، توجهت إلى المدرسة وفضت سرا
     مرت عليه ساعات تعدل السنين في طولها ، تعايشت معها المعلمة بفكرها 
    وحسها ووجدانها ، انصرفت المعلمة برقم الهاتف بمنأى عن الفتاة ، لايشغل 
    السيدة شيئ سوى مصلحتها فحسب ، أخبرت المعلمة بأنها لم تأت بالأمس ،
     ولاحاجة لنا بها بعد اليوم ،فأنا في استغناء عن خدماتها ، شكرتها المعلمة 
    وبدأت تطمئن الفتاة حتى تزيل عنها شيئا من التوتر والاضطراب ، مصطحبة 
    إياها إلى بيتها حتى جاء اليوم الثالث .

    أذيعت عناوين الصحف في الإذاعة المدرسية ، وبعدها تداول المعلمون الصحف 
    فإذا بأحدهم يقرأ خبر القبض على امرأة تحمل لفافة من المخدرات إنها هي ،
     كيف ذلك ؟ لاحول ولا قوة إلا بالله ، كنا نحسبها طيبة ، صدق من قال : تحت 
    السواهي دواهي ، شاع الخبر ، والكل حوله ما بين مصدق ومكذب ، وأغلب
     الناس يميلون للشر في تأويلهم لما يسمعون ، وأنى لهم يحسنون التأويل وقد 
    أخبرتهم الحكومة في صحفها ، كان وقع الخبرعلى الفتاة كالصاعقة ، إنها أمها 
    التي لها في الحياة ، ليس لها سواها ، لا ، لا ،كذب من ادعى عليها .

    يالإنسانية تلك المعلمة ! ويا لعظمتها ورحمتها ! أظلمت الدنيا ، فكانت شمعة 
    تهدي ضالها ، وأجدبت القلوب من رائحة الرحمة ، فكانت بلسما ، قضي الأمر ، 
    فكانت للفتاة أنسها ، وللأم دواءها وصبرها ، اتسع قلبها النادر فكان للفتاة
     ملاذا آمنا ، وراعيا أمينا ، ويوم أن تحقق الحلم الأكبر للفتاة نبوغا وتفوقا ، 
    يوم كان الإفراج عن أمها براءة وشرفا ، ليبيت الأمل في أحضان البراءة .
     

0 التعليقات

إرسال تعليق