ظاهرة الحزن لدي شعراء رابطة الأدباء والشعراء الثقافية
للناقد والباحث الدكتور الشاعر : علاء البربري
عضو مجلس إدارة رابطة الأدباء والشعراء الثقافية
قُدم هذا البحث
ضمن فعاليات المؤتمر الأول
لرابطة الأدباء والشُّعراء الثقافية
الذي أقيم في قصر ثقافة ( أبو قرقاص)
في السابع والعشرين من ديسمبر م2012

تمهيد :
تخضع ذات الإنسان– خاصة الشاعر- للعديد من المشاعر والأحاسيس
المتناقضة :
من فرح ٍ وحزن ٍوأمل ٍ ويأس ٍ ، وغيرها من المشاعر ، التي
تتسلط على ذات
الإنسان فتشكل رؤيته للحياة والوجود ، ولأن الأدب مرآة
للواقع ؛ فلابدَّ أن تلقي
هذه المشاعر بظلالها على الأدب فنلمس فيه آثار
هذه المشاعر و " لا شك أنَّ
ظاهرة الحزن في الأدب، باتت تشكِّل عاملاً
مشتركًا بين الأدباء، في كلِّ مكان ٍ من
العالم، نظرًا للظروف التي تمرُّ
بها المجتمعات الحديثة ،وهي ظروف يشوبها التوتر
والضياع، الذي يعيشه
الإنسان العصري"([1])
والشِّعر المعاصر يعبِّر بوضوح عن هذه الظاهرة فقد " استفاضت
نغمة الحزن حتَّى
صارت ظاهرة تلفت النظر، بل يمكن أنْ يُقال إنَّ الحزن قد
صار محورًا أساسيًا في
معظم ما يكتب الشعراء المعاصرون من قصائد000 وأبرز
ما يوجَّه إلى هذه النزعة
التي استفاضت هو أنَّ الشعراء قد صاروا يُلِحُّون
على إبراز جانب واحد من الحياة
هو جانب القتامة فيها ،وأنهم يغمضون عيونهم
عن جانب البهجة . وليست الحياة
جهمة كلها ، وإنما هي تتضمن إلى جانب
الجهامة صورًا من الإشراق كذلك . ونفس
الشاعر التي لا تتسع لاستيعاب كل
أشكال الحياة ينبغي أن تهزها الأشكال المشرقة
كما تستوقفها الصور الجهمة "
([2])
وإذا كان الحزن من الظواهر المرتبطة بالشِّعر المُعاصر ولم
يكن الأمر كذلك
بالنسبة للشِّعر القديم ، فإن هناك تبريرًا لهذا الاختلاف "
فالشاعر القديم كان يقف
برؤيته – في الغالب – عند حدود الوجه الواحد ،
فإذا هو رأى الوجه المُطْرِب طَرِبَ
، وإن هو رأى الوجه المُحْزِن حزن
.أمَّا الشَّاعر المعاصر فقد اتَّسعت رؤيته واكتسب
نوعًا من الشِّمول ،فلم
تعدْ أشكال الحياة أمامه ألوانًا مختلفة يستقل بعضها عن
بعض ، وإنما تتمازج
فيها الألوان لكي تصنع الصُّورة العامَّة . ومن ثمَّ لم يعد الشِّعر
المعاصر سوى الجانب النَّاصع وحده ، أو الجَّانب القاتم وحده، وإنَّما يرى
الجانبين
ممتزجين ، فإذا هو رأى الجانب القاتم استشرف فيه السُّطوع
والضَّوء."([3])
ويبرر الدكتور عز الدين إسماعيل أسباب الحزن التي استفاضت في
الشعر المعاصر
بقوله: " أما أحزان شاعرنا المعاصر فمصدرها " المعرفة ".
وقد يبدو غريبًا أن
تكون المعرفة مصدرًا للحزن؛ لكنَّ شيئًا من التأمل في
موقف شاعرنا المعاصر
يجعلنا ندرك كيف أنَّ بُعدًا من أبعاده يرتبط بقضية
المعرفة ارتباطًا وثيقًا "([4])
وهناك من يرى أنَّ الحزن أحد العوامل التي تحرِّض على الإبداع "
فالقصائد لا تولد
من تحقيق ورضا وإنما تولد من الحزن والإخفاق والبحث الذي
لا يُغني "([5])
( ومأساة الشاعر المعاصر مأساة مزدوجة فبإضافة إلى هزيمته
الشخصية باعتباره
شاعراً فهو يستشعر مأساة الإنسان عموماً . مأساة الإنسان
عندما استحال إلى
ترس في عجلة المدنية الحديثة المؤسسة من قوالب الاسمنت والإسفلت فأصبح
بهذا مجرد رقم متحرك يكون مرة مطبوعاً على شهادة ميلاد ومرة على شهادة وفاة
ترس في عجلة المدنية الحديثة المؤسسة من قوالب الاسمنت والإسفلت فأصبح
بهذا مجرد رقم متحرك يكون مرة مطبوعاً على شهادة ميلاد ومرة على شهادة وفاة
مروراً بجملة من المحطات التي يهدده فيها الصراع والضياع
والعزلة .. وقلب
الشاعر هو الأسفنجة التي تمتص أحزان البشرية جمعاء ولذا
دفعته مأساته
المزدوجة إلى العزلة .. فانكفأ على نفسه متسائلاً عن علة
وجوده وطبيعة عمله
ومدى الحاجة إليه وحقيقة الدور الذي يناط به في هذه
الحقبة من تاريخ الإنسان
.تساءل طويلاً عما إذا كانت البشرية تحتاجه ليسلى
أحزانها ويفرح أحزانها
وهمومها ويدخل عليها المرح والسرور فلم يقنعه هذا
الدور الذي لا يرتفع به تارة
عن دور المهرج وتارة أخرى عن دور الراقصة
والمغني .وتساءل كذلك عما إذا
كانت البشرية تريده حكيماً واعظاً فوجد في
تراث الحكمة وقصص الوعظ وفلسفة
الأديان والأخلاق ما يغني البشرية عنه
..وتساءل أخيراً عما إذا كانت البشرية تريد
منه أن يكون لساناً معبراً عن
انجازات أمة من الأمم وقدراتها فساءه إلا يناط به إلا
هذا الدور الذي يتقنه
غيره إضعاف إتقانه له ).([6])
والذي يتتبع هذه النغمة الحزينة يجد لها أثرًا لدى معظم الشعراء
المعاصرين ،
فلا يكاد ينفلت شاعر واحد من براثن ذلك الإحساس فها هو نزار
قباني يعبر
عن حزنه قائلاً :
سكن الحـزنُ كالعصافير قلــبي فالآسي خمرةٌ ، وقـلــبي الإنـــاءُ
أنـا جــــرحٌ يمشي على قدمــيه وخــيولي قــد هـــدَّهــا الإعيــــاءُ ([7])
وقد يرتبط الحزن بالوحدة كما نراه عند صلاح عبد الصبور:
وحيدًا حزينًا أواجه عينيك إذْ تسألان الفرح
وحيدًا حزينًا أواجه كفَّك حين تُمدُّ إليَّ
وحيدًا حزيناً أواجه فرحة حبَّك ([8])
وها هو الشَّاعر أمل دنقل يعبِّر عن حزنه قائلاً:
في الحفل التقليديًّ لعيد الميلادْ
وجهت الدعوة للأصحاب وللخلانْ
لم تحضر إلا الأحزانْ ([9])
ويقول كذلك :
وأنا كنتُ في الشَّوارع وحدي
أتصبَّبُ بالحزن ِ بين قميصي وجِلْدِي
قطرةً قطرةً، كان حبِّي يموتْ
وأنا خارج من فراديسه..
دون ورقة توتْ([10])
ولا يجد أحمد سويلم ما يعصمه من زمانه وأحزانه :
وجعٌ في العروق ِ
وفصلٌ من الحزن ِ يمتدُّ في وطن ِ الريح ِ والموج ِ والليل
هذا زمانُ البلاء فبماذا إذن نعتصمْ ؟ ([11])
ويقول مهران السيد:
أتهيأ في عُريي ، أتعطَّر بالجَّدب ِ الموحش ِأُُلقى
في المرآة سلامي، لتجاعيد الوجه ِ الراكد ِ كالمستنقعْ
أتلفَّتُ مضغوطًا
لا شيء سوى مُزق ِ الأيَّام المُجْتثَّةْ
وبقايا أحلام ٍ 00 رثَّةْ !([12])
ويقول محمد عفيفي مطر:
لم أزلْ طفلاً وحملتُ على صدري آلام الرجالْ
كان حزنُ الجِّيل في قلبي 00 ولكني أتيتُ
عاميّ الخامسُ والعشرونَ ما زالَ يطير ْ
باحثًا عن ذلك الطفل الصَّغيرْ ([13])
ويقول فاروق جويدة :
أبتاه .. أيامي هنا تمضي
مع الحزن ِ العميقْ
وأعيش وحدي..
فقد فقدتُ القلبَ والنبضَ ..الرقيقْ
دربُ المدينة يا أبي دربٌ عتيقْ ..
تتربَّعُ الأحزانُ في أرجائه
ويموت فيه الحبَّ ..والأمل الغريقْ ([14])
من خلال النماذج السابقة يتَّضح أنَّ الحزن يكاد يكون قاسمًا
مشتركًا بين شعرائنا
المحدثين والمعاصرين ،وتتباين دواعي الحزن عند
الشعراء باختلاف شخصياتهم
وتكوينهم النفسيّ، وتتباين دواعي الحزن – كذلك –
عند الشَّاعر الواحد ، فشاعرٌ
كأحمد الشافعي ينتابه الحزن أحيانًا لأسباب ٍ
متعددة ، فنراه يقول في قصيدته :
(نبت الحزن):
تسألنى ..
أطهرُ مخلوقات ِ الله
سيدة ُ قادمة ُ من زَمِن ٍ..
ما عدنا نحياه
ما بالُ فؤادكَ تسكنه الآه ؟
ما بالُ جوانحكَ اندست..
بين ثناياها..
كلمةُ أوَّاه ؟
يتضح من خلال عنونة القصيدة أنَّ الشاعر يلج إلى القارئ
مباشرة دون مواربة أو
تخفي ، فالعنوان- الذي يمثل العتبة الأولى من عتبات
النص - يأتي مباشرًا ليفصح
عن مضمون القصيدة ، ويبني الشاعر قصيدته بناء
دراميا ، فيجعل الحوار هو
الدعامة الأساسية التي يقوم عليها النص ،وهذا
الحوار يسمح بتعدد الرؤى داخل
النص مما يشحنه بطاقة فنية هائلة تقضى على
النظرة الأحادية ، فإذا كانت القوة
السلبية المتمثلة في الحزن تنبع من
داخل الذات ، فهناك قوة أخرى تكمن خارج
الذات ، قد تكون هي المرأة إذا
أردنا أن نأخذ بظاهر النص ، وقد تكون هي الفكرة /
القصيدة ، أو الأمل الذي
يتصدى لذلك الحزن ويخفف من وطأته ، يقول أحمد
الشافعي على لسان المرأة
مخاطبة إياه :
يا شاعرنا ..
ما زالت كلماتك تسرى لحنا..
لا أنساه
ما زالت كلماتك تمنحنى عطرا ..
يشملنى بشذاه
ما زالت كلماتك تمنحنى نورا ..
أمضى بهداه
يا شاعرنا ..
يا نارَ الشوق ونهرَ الحبِّ..
وصوتَ ضمائر هذا الركب ..
إذا ما ضلَّ ضمير الركب..
دروبَ الحقّ ..
و تاه
وتقوم هذا المرأة / الرمز / القوة الإيجابية بتحريض الذات
الشاعرة على نفض
أحزانها من خلال سرد بعض الأوصاف التي تتميز بها الذات
الشاعرة وتكشف عن
مساحات الجمال الكامنة في الذات وفي إبداعها ، لتعيد
الأمل للذات وتأكد دورها
الإيجابي في الحياة من خلال إبداعها الذي يمثل
شعلة النور في درب الحياة ،
ويمثل الهداية للحيارى .
ويكمل هذه المرأة دورها في التحريض على هجرالذات لكهف أحزانها ،
وتحثها على الإنطلاق من أغلال الكآبة من خلال النصح فتقول :
لا تمزجْ قلمكَ .. بالأنات
لا تُزْحِم روحكَ بالآهات ِ
ما أقسى حرفكَ ..
لو كان مدادكَ من عبرات ِ
لو سكنَ الحزنُ قريضكَ ..
مَنْ يمنحنى الفرحَ ؟
لو شابَ الألمُ قريضكَ ..
مَنْ يبرئ هذا الجرحَ ؟
لو هدَّ الدمع قريضكَ ..
من ينشئ هذا الصرحَ ؟
فقصائدك امتدت بين جوانحنا
واختلطت بجميع جوارحنا
وارتسمت بين ملامحنا ..
أجمل ما فينا فى زمن ِ القبح .
تحاول هذه المرأة- جاهدة - أن تصرف الحزن َ عن ذات الشاعر
معمقة دور الذات
الشاعرة – من خلال إبداعها - في مسيرة الحياة ، فهي تحث
الذات الشاعرة على
عدم الاستسلام للمشاعر السلبية وتحثها – كذلك – عن عدم
التخلى عن دورها
الإنساني في بث قيم الجمال والتفاؤل والأمل .
ويأتي دور الذات في الحديث فنرى الشاعر يتوجه بالحديث
إلى تلك المرأة قائلا :
يا سيدتى ..
هل أدهشك الحزنُ النابض فى أوراقى ؟
هل أفزعك الوًهجُْ النابعُ من أعماقى ؟
هل أزعجك نضوبُ معينى ..
و أنا المنبعُ و الساقى ؟
يا سيدتى ..
أنا نبت الحزن بأرض الزَّمن ِ الرافض للعشَّاق ِ
أنا بعضُ رماد ٍنثرته الريحُ بلا إشفاق ِ
و أنا ملاح ُ قذفته الأمواج بعيدا ..
و الآن يسارعُ فى الإغراق
الحزن تجسد قدّامى ..
سدًا يحجبُ آفاقى
كيف سأزرع فى بستانك أى زهور ٍ ..
و أنا لا أحمل غير بذور ٍ ..
للأشواك
كيف أنير طريق عبور ..
و أنا أسقط فى الإحلاك ِ
يا سيدتى ..
كيف سأمنح طوق نجاة ٍ ..
و أنا أغرق ؟
كيف سأطفئ نار عذاب ٍ ..
و أنا أحرق ؟
كيف ستمنحنا الشمس ضياها ..
وهى انطفأت ..
ما عادت تشرق ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
تعتذر الذات الشاعرة عن عدم القدرة على ممارسة دورها في منح
الأمل للآخرين ،
لأنها ببساطة شديدة ، لا تملك هذا الأمل لنفسها ، فقد
افتقدت الذّات مقومات
العطاء ، ففاقد الشيء لا يعطيه ، ولا يفصح الشاعر عن
دواعي هذا الحزن وتلك
النظرة السوداوية التي تغطي أفق الذات ، مما يفتح لنا
أبواب الاجتهاد في محاولة
الكشف عن أسباب هذا الحزن .
ولكن ثمة نص آخر يبوح فيه الشَّاعر بأسباب حزنه حينما يقول :
جرحان يا ربى .. الأول فى وطنى و الآخر .. فى قلبى
تتضافر الأسباب التي تُحزن الشاعر ما بين أسباب عاطفية وأخري
سياسية ،
بسبب ما يمر به الوطن من صراعات سياسية ، ومن ثمّ تتعمق مشاعر
الحزن لدى الشاعر .
الحزن بسبب فقد الأحبة :
فن الرثاء من الفنون التي لها جذور تاريخية في تراثنا الأدبي ويكاد يكون هذا الفن
من أعذب فنون الشعر وأصدقه عاطفة ؛ لأنه يصدر عن الشاعر وهو في قمة
المأساة ...حيث يعاني ألم الفقد .. ومن هنا نجد في تراثنا العربي ، مراث ٍ تعدُّ
من أجمل ما في الأدب العربي، ويروي الرواة أن بعض العرب سئلوا: ما بال أفضل
أشعاركم الرثاء..؟فأجابوا: لأننا نقولها وقلوبنا موجعة، أي لأنها صادرة
عن عاطفة حارة، خالية من كل تكلف وتصنع..
والرثاء يكون على فقيد في العادة من أهله وقومه وذوي قرباه أو ممن ينزلون منه
منزلة النفس والأهل ممن يحبهم ويؤثرهم، وهذا النوع هو أصل الرثاء، وقد رثى
جرير زوجته بقصيدة جاء في ختامها :
لولا الحياء لهجاني استعبارُ ولزرت قبرك والحبيب يزارُ
ومسلم بن الوليد يعد من أشهر من رثي زوجته في العصر العباسي ،
فبعد أن دفن زوجته ، لاحظ أصحابه الهم الذي يغشاه ..
فدعوه للشراب حتى يني أوجاعه فرد عليهم :
بكــاءٌ وكــأسٌ كيف يتفقان سبيلاهما في القــلب مختلفــــــان
دعــاني إفراط البكــاء فإنني أرى اليوم فيه غير مـا تريـــــــان ِ
غدت والثرى أولى بها من وليها إلى مــنزل نـــــــاء ٍ بعينيك دان ِ
وكيف بدفع اليأس والوجد بعده وسهمــاهما في القــــلب يعتلجان.
ولا يخلو الشِّعر الحديث من نماذج راقية في فنْ رثاء الزَّوجات ..كما نجده عن
البارودي و هناك من الشُّعراء المحدثين الذين رثوا زوجاتهم في ديوان كامل
(عزيز أباظة) و(عبد الرحمن صدقي) و(محمد رجب البيومي)،وغيره من الشعر
الذين أبهرونا بنصوص مفعمة بالشجو العذب كنزار قباني في رائعته ( بلقيس )
التي رثا بها زوجته بعد قتلها في لبنان في عام 1981 .
وبعد هذا المدخل ..نعود لشاعرنا أحمد الشافعي ذلك الصوت الشعري المترع
بالشجن والعذوبة ...وهذا الشاب يبهرك وأنت تستمع لصوته الذي يتقطر منه
الشجن الملائكي العذب ، وكأنه كائن شعري خالص ، جاء لنا من مدينة الشعر
الخرافية ، وعلى المستوى الإنساني فهو إنسان خجول وسامى الخلق من يقترب
منه يلمس فيه الكثير من المعاني الإنسانية الراقية والنبيلة ، وليس غريبا على
أسيوط التي أفرزت محمود حسن إسماعيل ، وفوزي العنتيل ، وعبد المجيد فرغلي
ودرويش الأسيوطي، وغيرهم من الشعراء والمبدعين أن تقدم لنا هذا النموذج
الراقي مثل شاعرنا أحمد الشافعي .
والشاعر في هذا النص يسترجع لحظة الفقد ، ويجسدها أما أعيننا ؛
حتى نشاركه في هذه اللحظة الفارقة في حياته :
يا لحظةًَ قد ذابَ فيها العقل في بحر ِ الجُنونْ ....
إنِّي لأذكر كيفَ كانوا حول رأسك ينظرونْ ....
وعيونهم حيرانة ...
وقلوبهم خفاقة .... يتهامسونْ ...
هذا الملاكُ المُستكينْ ....
عمَّا قليلٍ سوفَ يُصْبحُ في عداد ِ الغائبينْ ....
أستطاع الشاعر ببراعة أن يجعلنا نشاركه في هذه اللحظة ، حيث استخدم تقنية
(الفلاش باك ) التي استرجع بها مذاق تلك اللحظة وجعل المشهد باقيا أما
م أعيننا بقاءً سرمديا .
وهذه الراحلة ...تتجاوز الطبيعة الآدمية ، لتدخل في طبيعة أخرى الطبيعة
الملائكية هي ليست من لحم ودم كباقي البشر بل هي (ملاك ) كما يصورها
الشاعر ...فهي كائن نوراني يسمو على الطبيعة المادية ..وتتخلص من طبيعتها
الآدمية بترابيتها وآهوائها وشهواتها وأحقادها ...لتكون ( ملاكا مستكينا )
في مخيلة الشاعر .
ورغم أن هذه اللحظة هي لحظة النهاية ...لكنها هي بؤرة الاهتمام لدى الشاعر
فهي لحظة الفصل بين عالمين : ( عالم موجودة به ، وعالم غائبة عنه ) وبين
حياتين ) حياة ئملؤها بدفئها )(وحياة باردة بغيابها ) وبين زمنين : ( زمن توجود
فيه ، وزمن تمارس فيه الغياب ) نعم هي لحظة الحسم بالنسبة للشاعر لذا فنراه
يسلط كاميراته الداخلية لتسجيل هذا الحدث الأهم ، الذي هو بؤرة القصيدة ،
وبعد الوقوف عند هذا المشهد المبكي ، والعالق بمخيلة الشاعر ،
كان من الطبيعي بعدها ان يعبر عن حزنه نتيجة لهذا الفقد :
يا لوعة القلب الحزينْ ....
وأنا أفارق نصف أيامي الحنونْ
تلك البريئة زهرة ذابت بأوجاع السنينْ
وتساقطت ورقاتها بخريف أيامي الضنينْ
كانت تطل على الحياة كضحكة الصبح ..
كأضواء العيونْ
نقشت على بحر الرمال ....
من نافلة القول أن نقول : ( إن الحزن خبر خبز الشعراء ) ، فالحزن هو المثير
الأقوى الذي ينضج الشاعرية ويحفزها على البوح ، ومن هنا فإن تجربة الفقد ،
دفعت الشاعر إلى البوح بما يعتمل في نفسه من أحزان متراكمة ..خلفها ذهاب
الزوجة عن عالمه ، تاركة ورائها أرثا من الذكريات والأوجاع ، بعدما كانت في
عالمه: (البريئة - زهرة ، ضحكة الصبح،لوحة خلابة ، ضحكة لم تكتمل ...إلخ)
لقد اتكأ الشاعر على الصورة الشعرية - في هذا النص - ليكون من هذه الصور
الجزئية لوحة شعرية نقلها من مخيلته ، لهذه الزوجة الراحلة ، كقوله :
كم كان صعبا
أنْ تعيشي بيننا بفؤاد أطفال برىء
يا لوحةً لطبيعة خلابة وقت الغروب
يا ضحكةً لم تكتمل بين الندوبْ ...
إن الشاعر يمزج في صوره بين الحسي والمعنوي ، فقد صورها : برئية لها قلب ،
وصورها في صفائحها بضحكة ، وصورها في جمالها بلوحة رائعة ، ويعتمد
الشاعر في صورته : (يا ضحكةً لم تكتمل بين الندوبْ ...) على المفارقة بين الجمال
والقبح والحياة والموت والضحك والبكاء ، كم كان الشاعر موفقا في رسم هذه
الصورة ، التي جسدت معاني الجمال في مقابل القبح ، إن الشاعر يصدر في هذه
الصورة من الفلسفة التي ترى النقص أحد مكونات الحياة البشرية .
وينفي الشاعر رحيل الزوجة بشكل تام ، فقد تركته له ولدا وابنة ،
يحملون نفس ملامحها ، فهي باقية فيهما :
سأراك دوما في ابتسام ( محمدٍ ) ....
( إسراء ) في قسماتها نفس الملامح
إن الشاعر مصرٌ على بقاء الزوجة لذا ، فهو يفتش عنها
في ابتسام ابنهما محمد وفي ملامح إسراء .
وهكذا استطاع الشاعر من خلال الصورة الشعرية رسم ملامح أنثوية ترصد الأبعاد
الروحية لهذه الفقيدة ، وينجح الشاعر في أنْ يجعل المتلقي يشعر بمدى الفقد الذي
عاناه ، وهكذا أسهمت الصورة الشعرية في بناء القصيدة فنيا إضافة إلى إسهامها
في البنية الدلالية ، كما انتقى الشاعر بحسه الفني المفردات الملائمة لطبيعة
التجربة ، والتي يستدعيها سياق التذكر في وصف المعاناة ،
وتذكر ملامح تلك الحبيبة
الراحلة ، كما كان الشاعر موفقا في اختيار موسيقى القصيدة ، حيث عزف الشاعر
مرثيته على بحر الرجز ، الذي تناسب مع مشاعر الفضفضة ، والبوح ، حيث
يقترب كثيرا من السرد ويتميز بنغماته الهادئة ، التي تتولد من تفعيلته ( مستفعلن )
، ومن هنا كان الرجز أقرب البحور الشعرية مناسبة لهذه القصيدة ، بما أتاحه
للشاعر من حرية السرد في التعبير عن الذات ، وأوجاعها والوقوف عند أوصاف
الزوجة المتعددة ، ومن هنا أسهمت الموسيقي في إثراء القصيدة دلاليا ، إضافة إلى
حروف النون الذي غلب على القافية ، وحرف النون من الحروف التي توحي
بالشجن ، خاصة وأنه جاء ساكنا ، فأعطى للنهاية وقفة تتناسب مع مشاعر الحزن
في جو القصيدة ، وزاد من هذه النبرة الحزينة أن حرف الروي ( النون ) مسبوقا
بحرف المد مما يوحي بالتعب وانقطاع النفس ، وبذلك فإن الشاعر قد وظف أدواته
الفنية بشكل رائع للتعبير عن مأساته وتجسيدها .
ونستطيع – الآن – أن نعترف أننا أمام شاعر وفيّ ، أستطاع أن يعبر ببراعة عن
تجربة إنسانية غاية في الرقي ، وهو يقدم لنا نموذجًا للوفاء الإنساني ، ونموذجًا
راقيًا للمبدع الذي يعرف كيف يوظف أدواته الفنية لتجسيد مشاعره والتعبير
عن تجربته ، بفنية عالية ، وشاعرية أصيلة .
ونقف هند نموذج آخر من نماذج الرثاء ، وهو (أهل كان بُدْ !!؟)
للشاعر مصطفى حامد ، الذي يرثي فيه زوجته قائلاُ:
وحيداً أمرُّ على الذكرياتِ
يُصافِحُني وجهَ بيتٍ قديمِ..
على سطحهِ جمَّعَتنا فصول الشتاء
أمُرُّ..يُهَدهِدُني صوتُها بالغناء!!
( أمس انتهينا فلا كُنَّا ولا كانَ..
يا صاحب الوعدِ خَلِّ الوعدَ نسيانَ )
امُرُّ...هُنا قد وقفنا طويلاً ...
تُغَلِّفُنا الثَّرثراتُ .. الحِكَاياتُ حيناً..
وحيناً نُلَوِّنُ ما قد تبقى منَ العُمرِ بالأُمنيات!!
يستفتح الشاعر نصه بوصفه لذاته ، فيقول ) وحيداً
أمرُّ على الذكرياتِ )
فالوحدة إذن هي المدخل لهذا النص المفعم بالشجن ،
إنَّ هذه الوحدة هي النتيجة
الطبيعية والحتمية للفقد ، ومن هناك كان مدخل
النص يتواءم مع عنونته حينما
جعل العنوان صيغة إنشائية استفهامية (أهل كان
بُدْ !!؟) فهذا التساؤل الذي ارتضاه
الشاعر عنوانا لنصه يفجر في النص
درامية عالية تجعل المتلقى يحار ويستفهم (
إلى من يوجه الشاعر هذا التساؤل )
هل هو يعاتب الزوجة على رحيلها المباغت ،
أم أنه يتوجه بالسؤال للموت ذاته
، أم أنه نوع من الفضفضة الداخلية وحوار الذات
، ونعود إلى النص ذاته ،
حيث يمر الشاعر وحيدًا علة الذكريات في مفتتح نصه
فيفعل ما كان يفعله
الأولون حينما كانوا يستفتحون قصائدهم بالوقوف على الطلل
وتذكر الحبيب ،
إلا أنَّ الأمر هنا يختلف ، فالقدماء كانوا يستفتحون نصوصهم
بالوقوف على
الطلل ، ثم ينفذون من هذا المدخل لباقي أغراضهم ، أما مصطفى
حامد هنا لا
يقف على الطلل كتقليد فني ، بل هو يقف على الطلل من أجل التذكر
وحده ، لا
لغرض غيره ، فهو يجد في التذكر السلوى وشيئًا من الراحة النفسية
حيث
يتخفف من متاعبه .
ومما يزيد مأساة الشاعر كون ابنتيه صغيرتين ، ويتساءلان دوما
عن أمهما ،
ويحنان إليها ، فيتعمق معنى الفقد عند الشاعر ، ويضاف لحزنه
أحزانا جديدة ،
يقول الشاعر :
تُعاتِبُني عينُ أروي !
وتبكي أريجُ على أُمِّها فى المساء!!؟
وتسأَلُني أينَ أمِّي!!؟
يَغُوصُ السُّؤَالُ كما النَّصلِ..
فى القلبِ أصنَعُ فى الوجهِ بَسمةَ ثكلَى!!
وتعرِفُ ...
أروى بأنِّي سأكذِبْ!!
أقُولُ غداً سوفَ تأتي..
فتبكي!!
فيا عينَها والأريجَ الذي يعبُرُ الارضَ
يسكُنُ فى المُستقرْ..
ويا لحظةً لا تمُرْ!!
وقد نجح الشاعر – من خلال هذا النص – في جرّ المتلقي لعالمه
وإرغامه على
مشاركته في مشاعره وانتقال حزنه – لا إراديا – إلى المتلقى
وهذا يعد نجاحا
للشاعر فمهمة الشعر هو التأثير في المتلقي وإيصال رسالته
الشعرية إليه ،
وأحسب أنَّ الشاعر نجح في هذا الهدف ، وقد استعان الشاعر
بالصورة الشعرية في
تجسيد معانيه ، ورسم مشاهد سينمائية لتجسيد تلك المشاعر
: انظر إلى قوله :
أُغَادِرُني حيثُ أروى...
على شُرفَةٍ ..
بِإصبِعِها فى الهواءِ وتَكتُبُ أُمي..
إن هذه الصورة الشِّعرية ، تجسد أروى تلك الطفلة التي فقدت أمها
وهي تخط كلمة
أمي في الهواء كل ما يريد الشاعر أن يقول من معاني الفقد
والضياع ، فالكتابة على
الهواء نوع من الضياع يتوازي دلاليًا مع ضياع الأم
من حياة تلك البنت ، لقد نجح
الشاعر في هذه الصورة إلى أبعد حد ، ولو أنّه
مال قال غيرها لكفته في تجسيد
كل ما يجول بخاطره .
وقد يستغل الشاعر فرصة الرثاء للكشف عن بعض العيوب المجتمعية
كما فعل
الشاعر أحمد قنديل في قصيدته : (توبوا !لى الله توبوا كثيرا) والتي
يرثي فيها
الشهيد تميم حيث يقول :
قالوا هو الآن حىُّ
ويُرزَق
.............................
فيا أيُّها القابعون أمام الإذاعات
يا أيُّها الاّسفون عليه
ويا أيَّها الجالسون
تمصون ليمونة الحزن
توبوا !لى الله
توبوا كثيرا
إنَّ الشاعر – من خلال هذا النص – لا يتباكى على الشًّهيد ،
لكنَّه يوظف هذا الحدث
توظيفا إنسانيا ، حيث يُعري المجتمع كاشفا عن بعض
عيوبه ، وراصدا لخنوعه
واكتفائه بالمشاهدة فقط دون محاولة منه للتغير على
أرض الواقع ، إنَّ الشاعر
يحث المجتمع على التخلي عن السلبية ، ويحثه كذلك
على السعي للتغيير ، وعدم
الاكتفاء بالحزن ، إنه يحاول أن يتخذ من الحزن
معراجا للانطلاق نحو التغيير ،
ومن هنا نستطيع أن نزعم أنَّ الشاعر وظف هذا
الحدث توظيفا جيدا لمعالجة أحد
أمراض المجتمع ، وهو السلبية أمام الأحداث
والاكتفاء بدور المتفرج ، دون أن
يكون له دور حقيقي في التغيير .
الحزن بسبب أوضاع سياسية :
إذا كان الشاعر له الحق أن يعبر عن مشاعره وآلامه وأحاسيسه
الذاتية ، فإن
من حق المجتمع عليه كذلك أن يتبني قضاياه ويعبر عنها ، ويحزن
كذلك لأجلها ،
فالشاعر لا يعيش دائما في برج ٍ عاجي يعزله عن مجتمعه ، بل
كثيرا ما يقفز
الشاعر من على أسوار الذات لينطلق خارجها ملتحمًا بجموع
الناس ومعبرا عن
قضاياهم ، وكثيرًا م الشعراء من وهب نفسه لقضية وطنه
كالشاعر محمود درويش
الذي أوقف شعره على قضية فلسطين ونجح بشعره أن يجعلها
فضية عالمية ،
وكذلك الشاعر نزار قباني الذي أوقف حياته على شعر الحب في
بداية مسيرته
الشعرية ، وجاءت نكسة حزيران ليتحول إلى شاعر سياسي من الطراز
الأول ،
وفي هذا يقول :
يا وطني
يا وطني الحزين
حولتني بلحظة ٍ
من شاعر الجبّ والحنين ٍ
لشاعر ٍ يكتب بالسكين ْ
وهكذا فعل الجواهري ، وأمل دنقل ، وأحمد مطر وغيرهم الكثير
من
شعراء المقاومة الذي سخروا شعرهم للتعبير عن قضايا الوطن بالتوازي
مع
التعبير عن آلامهم الذاتية .
وهذا ما نجده عن الشاعر محمد رشدي حيث يقول في قصيدة :
(مـِــــدادٌ أحـــــــمــر):
فى شاشاتِ التلفازِ
دماءٌ
تغمرُ كلَّ بقاعِ الكونِ
كأنَّ اللونَ الأحمرَ
صارَ مداداً للتاريخِ القادمِ
كيفَ نكونُ
إذا ...
ما سادَ اللونُ الواحدُ
والفكرُ الواحدْ ؟!
لا يخفى مدى الهم الذي يعترى الشاعر في هذا النص بسبب كثرة
الدماء العربية
التي نراها تسيل في العراق وفلسطين وأفغانستان وغيرها من
البقاع في العالم ،
حتى أن التاريخ صار يكتب بالدماء حسب تعبير الشاعر .
وقد يحمل الشاعر الذات الشاعرة مسئولية تردي الأحوال السياسية
وإضاعة
الحرية فيكون هذا مدعاة للحزن كما قي قصيدة ( أضعت النهار ) للشاعر
أحمد قنديل ، والتي يقول فيها :
وحين يجىء المساء على
كفة الحزن واليأس
يسرق نَورَ البساتين منّى
ويسكن فى كل دار
وقتها يستحيل النشيد الجديد
إلى ساحةِ
من تردِ بغيضِ
إلى باحةِ
من قفارِِ
وأدرك أنى
تركت هنالك زهًرا جميلا
وأنى فقدت الربيعَ
البديعَ
على درب هذا الغروبِ
المريبِ
وأنى أضَعتُ بجهل
وحمق
أضَعت النهار
الشاعر – هنا – يحمل الذات مسئولية إضاعة الحرية /
ضوء النهار بسبب بعض الممارسات غير الواعية وافتقاد الحكمة .
وقد تتعمق مشاعر الحون لدي الشاعر ليرى الكون وقد ظللته الكآبة ،
فيرى كل
شيء قبيحا كما يقول الشاعر دكتور شعبان عبد الحكيم في قصيدته :
الحداد
كل شىء جميل فى حياتنا
مات ...وانتهى
وأنا وأنت وهؤلاء
مقرفصون فى العراء
يذبحنا صقيع الشتاء
وعصافيرنا ماتت
لمن تصدح ...
انحبس فى فمها الغناء
أرضنا قاحلة لن تنبت
أنعامنا لن تنجب
وتجىء رياح غاضبة تجلد البيوت والدروب
ويرتفع النواح
من يتعمق هذا النص يستنتج بسهولة مدي السوداوية وخيبة الأمل
التي تلبد جو
القصيدة النفسي ، إن الشاعر وقع فريسة للحزن على الوطن وما آل
إليه من
أوضاع متردية ، حتى أنَّ الموت صار هو البؤرة الدلالية الأكثر
توهجا في هذا النص
، فالموت يستحوذ على كل شيء في الواقع ،وقد أثر الحزن
على ذات الشاعر
تأثيرا قاسيا يتبدى هذا من خلال الصور الشعرية المفعمة
بألوان الشقاء ، ورائحة
الموت التي تفوح في أرجاء القصيدة ، كما جاءت
المفردات مشحونة بطاقة هائلة
من الحزن فحسدت معاني الكآبة التي أراد الشاعر
أن ينقلها من طوايا النفس إلى
نصه ، وجاءت التجربة الشعرية متسقة وصادقة
عما يعيش الشاعر .
وتهب أمى من نومها باكية حزينة
لا بد أن أرحل
لا بد أن أموت
أماه رحيلك عُدم
رحيلك موت
وأمى مصرة لابد أن ترحل
لقد مات أبى
ومات كل شىء جميل
وعلى عتبتنا صورة لزنديق ...
وأخرى لمصاص دماء
وأمى تأبى العيش
إلا مع أبى
فحياتها بعده عُدم
حياتها بعده هباءْ
وهكذا مثل الدكتور النموذج السوداوي العدمي الذي ينظر للحياة
نظرة متشائمة ،
ولا يترك لنفسه ولا للمتلقي شعاعًا من الأمل ينير له الحياة
ويبشره بمستقبل أفضل .
ولكن هل يستسلم الإنسان للأحزان أم يحاول أن يتجاوزها ويتغلب عليها بالأمل
والتفاؤل والسعي للتغيير ؟
هذا السؤال يجيب عنه الشاعر محمد رشدي في قصيدته ( شتاء كان )
والتي يقول فيها :
وأقبلتُ ..
فى ذاتِ يومٍ وديعـاً
أقولُ
لكلِّ الذينَ يسيرونَ
تحتَ نوافذِ بيتى ويبتسمونَ
صباحٌ جميلٌ
مشيتُ وفوقَ يدىَّ
قلاعُ همومِى
زججتُ بهَا
عند أوَّل منعطفٍ للطريقِ
قطفتُ مزيداً من البسماتِ
ورحتُ أبدِّلُ وجهى
شيئاً فشيئاً
فـصَار بديعَـاً ...
إذا كان الحزن خبز الشعراء كما يقال ، وهو من أقوى المثيرات
للإبداع ،
ولكن على الإنسان / الشاعر
ألا يجعله ديدنه ، بل يجب عليه أن
يحاول أن ينفض عنه أحزانه
بما وهبه الله من قدرة على الصمود والتجاوز ،
وأحسب أن الشاعر محمد رشدى استطاع ببراعة شديدة أن يبث
هذه المعاني في
جنبات هذا النص ، ليعلمنا
كيف يكون التفاؤل ، ويعلمنا كذلك كيف نتجاوز
أحزاننا
ولا نتخذها ذريعة للخمول ، بل علينا السعي
لتجاوزها وهذا معنى شريف
يمنح هذا النص قيمة عالية ،
ويغرس بذور الأمل والتفاؤل
في نفس القارئ
ويؤصل للقيمة الجمالية للإبداع .
ومما سبق يمكننا عرض بعض النتائج التي توصلت إليها الدراسة وهي :
* يمثل الحزن قاسما مشتركًا بين جميع الشعراء ،
الذي تناول
البحث شعرهم وهم : ( أحمد الشافعي ،
مصطفى حامد ، أحمد قنديل ، محمد رشدي ،
شعبان عبد الحكيم )
وإن اختلت طبيعة المعالجة لدى كل منهم .
* تعدد دواعي الحزن لدى الشعراء وتتباين ، فمنهم من يحزن لأسباب
عاطفية،
أو يكون نتيجة لفقد الأحباب
كما رأينا عند أحمد الشافعي ومصطفي
حامد ، ومنهم من يحزن
لأسباب سياسية أو اجتماعية
كما رأينا عند محمد رشدي
وشعبان عبد الحكيم .
* تختلف طبيعة الحزن لدي الشعراء فمنهم من تتسلط عليه المشاعر
السلبية ،
فتأتي رؤيته للواقع سوداوية
كما رأينا عند شعبان عبد الحكيم ،
ومنهم من استطاع تجاوز الحزن ،
منطلقا إلى عالم أرحب يستشرف فيه
المستقبل
كما جاء عند محمد رشدي .
* ومن الشعراء من وظف الحزن للتعبير عن قضايا وطنية وعيوب اجتماعية ،
وراح يعالجها في نصوصه كما جاء عند أحمد قنديل .
* والشعراء قد وظفوا أدواتهم الفنية للتعبير عن أحزانهم فقد
كانت اللغة
تعبر بوضوح عن مشاعرهم دون غموض
أو تعمية ، كما أحسن البعض في
صوره الشعرية لحد بعيد كما رأينا في
نماذج أحمد الشافعي ومصطفى حامد ، حيث
جاءت
الصورة الشعرية مجسدة لمشاعر الحزن التي يعانيها الشاعر ،
كما جاءت
معظم النصوص على الأبحر الصافية التي تتناسب
مع طبيعة التجربة وتسمح للشاعر
بالفضفضة والتعبير عن مواجعه ،
ونرى البعض قد وظف الموسيقى توظيفًا
دلاليًا ،
أسهم في البناء الدلالي للنص إضافة إلى وظيفته الجمالية .
* جاءت تجارب الشعراء – جميعها – في إطار الوضوح
والمكاشفة
بعيدة عن الترميز والتعمية ،
وربما لهذا المسلك ما يبرره ، حيث إن الشاعر
في حال الحزن يبحث همن يشاركه أحزانه ،
ومن هنا فالشاعر يتبسط في أسلوبه
ولا يتعالى على قارئه
حتى تصل رسالته للمتلقي ، وهذا ما ينشده الشاعر .
وبهذه الدراسة العجلى لظاهرة الحزن لدى شعراء الرابطة
أرجو أن
أكون وفقت في بعض ما آملته من رصد للظاهرة
والوقوف عند بعض دواعيها ، وإن
كانت الأخرى فحسبي
أني اجتهدت بما منحه الله لي من قدرة على التحليل ،
وبما سمحت به النصوص التي بين يدي ، وما توفي لي من وقت
للعكوف على هذه النصوص لاستنطاقها .
المراجع :( مرتبة حسب ورودها في البحث )
أولا ً المراجع :
([1]) دور الشعر العربي في مصر (بعد هزيمة يونيو 67) :
د. عبد العاطي كيوان ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ،
الطبعة الأولى2002 م ، ص52.
([1])الشعر العربي المعاصر ( قضاياه وظواهره الفنية ):
د. عز الدين إسماعيل ، المكتبة الأكاديمية ،
ط5 ، 1994م، ص302.
([1])أحمد عبد المعطي حجازي الشاعر المعاصر :
د. مصطفى ناصف الهيئة المصرية العامة للكتاب ،
1996م ،ص90 .
([1])الكتابة خارج الأقواس دراسات في الشعر والقصة ،
سعيد مصلح السريحي ،
الطبعة الأولى 1986م ، إصدارات نادي جازان الأدبي . ص 18-19.
ثانيا الدواوين :
([1])الأعمال السياسية الكاملة: نزار قباني ،ج3 ، ص346.
([1]) الإبحار في الذاكرة : صلاح عبد الصبور، دار الشروق ،
بيروت ، ط2،1981م ،ص52.
([1])الأعمال الشعرية للشاعر: أمل دنقل ،دار العودة، بيروت ، 1985.ص224.
([1])الأعمال الشعرية للشاعر: أمل دنقل ،دار العودة، بيروت ، 1985.ص296.
([1])الأعمال الشعرية للشاعر:أحمد سويلم ، الهيئة المصرية العامة
للكتاب ، القاهرة 1992م ، ص 552.
([1]) ديوان طائر الشمس: مهران السيد ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ،
القاهرة، ط2 ،1991م، ص25.
([1])الأعمال الشعرية : محمد عفيفي مطر،دار الشروق ،القاهرة ،
الطبعة الأولي 1998م،ص63.
([1])الأعمال الشِّعرية الكاملة: فاروق جويدة ، مركز الأهرام
للترجمة والنشر، الطبعة الثالثة 1991م،ص12.
([1]) دور الشعر العربي في مصر (بعد هزيمة يونيو 67) :
د. عبد العاطي كيوان ،
الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الأولى2002 م ، ص52.
([2])الشعر العربي المعاصر ( قضاياه وظواهره الفنية ):
د. عز الدين إسماعيل ، المكتبة الأكاديمية ، ط5 ، 1994م، ص302.
([3])الشعر العربي المعاصر ص304.
([4])الشعر العربي المعاصر ص304
([5])أحمد عبد المعطي حجازي الشاعر المعاصر :
د. مصطفى ناصف الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1996م ،ص90 .
([6])الكتابة خارج الأقواس دراسات في الشعر والقصة ،
سعيد مصلح السريحي ، الطبعة الأولى 1986م ،
إصدارات نادي جازان الأدبي . ص 18-19.
([7])الأعمال السياسية الكاملة: نزار قباني ،ج3 ، ص346.
([8]) الإبحار في الذاكرة : صلاح عبد الصبور،
دار الشروق ، بيروت ، ط2،1981م ،ص52.
([9])الأعمال الشعرية للشاعر: أمل دنقل ،دار العودة، بيروت ، 1985.ص224.
([10])الأعمال الشعرية للشاعر: أمل دنقل ،دار العودة، بيروت ، 1985.ص296.
([11])الأعمال الشعرية للشاعر:أحمد سويلم ،
الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1992م ، ص 552.
([12]) ديوان طائر الشمس: مهران السيد ،
الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة، ط2 ،1991م، ص25.
([13])الأعمال الشعرية : محمد عفيفي مطر،
دار الشروق ،القاهرة ،الطبعة الأولي 1998م،ص63.
([14])الأعمال الشِّعرية الكاملة: فاروق جويدة ،
مركز الأهرام للترجمة والنشر، الطبعة الثالثة 1991م،ص12.
0 التعليقات
إرسال تعليق