المسكينة " قصة قصيرة "
بقلم الأستاذ / عواد تمام
عجبا
لتلك الحياة ! غنيها غني ، وفقيرها فقير ، قلما تمتد يد الغني ، ليأخذ
بيد
الفقير إلا بمقدار ما يتبلغ به من ضرورات الحياة ، دون أن يفتح له
بابا للغني
فتتساوى الرؤوس ، حتى ليكاد الغني أن يقول أنا الغني لا أحد ،
والسواد
الأعظم من الأغنياء يأنسون ويتطامنون برؤية الفقراء ، التي تشعرهم
بالبينونة
الكبرى بينهم وبين هؤلاء الفقراء ، هكذا كان حوارها مع نفسها ،
بالقطار الذي
يقلها صباحا من أحد أقاليم الوجه البحري إلى القاهرة ،
فتتجاوب مشاعرها
الحزينة مع هزات القطار الذي يزحزحها يمنة ويسرة ، وهي
جالسة على أرضية
إحدى عرباته ، وتكاد تنكفئ على وجهها كلما توقف ، وترتمي
على ظهرها كلما
اندفع إلى الأمام ، ما بال هؤلاء الناس الذين معي ،
يتربعون على مقاعدهم لايفكر
أحدهم في جلوسي ، ولا تتحرك النخوة في شبابهم
فيقوم أحدهم ويجلسني ، لعل
أحدهم كان يفعل هذا مع واحدة من الهوانم ذوات
الأناقة ، حتى الواجب يميز
الناس فيه بين من بدت عليهم أمارات الغني على من
ساءت أحوالهم مثلي ، ولم
تذهبين بعيدا أليست بنتك قد حصلت على جائزة
التفوق في الشهادة الإعدادية ،
فما أحد هنأها أو بارك لها ، بل أخذ الناس
يلومون بناتهم لا على تدني مستواهن
بل على تقدم ابنتك عليهن ، قائلين لهن
أهكذا تتفوق عليكن ابنة تلك المسكينة ؟
وسرعان ما تلوح على وجنتيها
ابتسامة الفرح فتميط اللثام عن ثغرها الجميل
وأسنانها البيضاء ، وكأنها
مسحت بابتسامتها شقاء السنين ، كالثمرة الغضة
التي تروق للعين ، بعد غسلها
من غبارالأرض ، وأدخنة الهواء ، وما كانت تلك
الابتسامة سوى الأمل الذي
تحلم به برؤية وحيدتها طبيبة ، لكم قالت لي معلمتها
ذلك ، ألم تصادفني تلك
المعلمة ذات مرة في إجازة الصيف وتقول لي محذرة :
إياك أن تنسي سلامي
للدكتورة ، وسرعان ما يعاودها خجل مستكثرة ومستعظمة
ذلك الحلم الذي تحلم به
، وما هذا الخجل والحياء إلا أوبة سريعة من تطلع إلى
ذروة المجد ورؤية
لواقعها الحي الملموس ، ها هي تستعد فقد اقترب القطار من
محطة مصر ، الركاب
بدوا يتحركون ،يسحبون حقائبهم ، تنهض ، تتراجع ،
أنتظر قليلا حتى يخف
الزحام ، تستجمع انتباهها ، بروية تنزل ، تسمع صوتا
محاذيا لها ، ساعديني
يا ابنتي ، تنظر نحوه ، يناولها حقيبة صغيرة لتمسكها في
يدها ، ما شأن هذا
الرجل ؟ ولم لم يعطني شيئا ثقيلا أحمله عنه ؟ لعله أراد ألا
يشق علي ، مدت
يديها لتحمل عنه مايستحق الحمل لكنه أبى ، تعجبت لأمره ،
مشيا فصادفا
شرطيا يفتش المارة في المحطة لكنه تشاغل عنهما ، مشيرا بيده
أن تفضلا ،
أحسست أنه يعرفه ، حتى إذا اقتربنا من البوابة الرئيسية للخروج
وجدتني أمام
لجنة شرطية ، أشار علي الشرطي أن افتحي ما معك ، إن مامعي
كيس به جلباب
العمل ، وهذه الحقيبة ليست لي ، التفت لأناولها لصاحبها فلم
أره ، أخذها
الشرطي من يدي ، فتحها ، قلب ما بداخلها ، أشار لاثنين من الجنود
فأمسكني
أحدهما من معصم يدي اليمنى والآخر من اليسرى ، ارتعت مما حدث
لي ، غير
أنهما اقتاداني لغرفة بها أربعة من رجال الشرطة ، على أكتافهم رموز
وعلامات
لا أميز بينها ، فالدهشة والقلق عطلا كل شيئ من فكري وإحساسي ،
وانتبهت
هنيهة على صوت الجندي الذي معه الحقيبة وهو يقول : من أين هذا
الصنف ياحلوة
، انتابتني حالة من عدم الوعي ،والبكاء ، وفقدت قدرتي على
الكلام ، ابنتي
، ابنتي أين هي ؟ أريدها ، دعوني لابنتي ، استفقت قليلا ، هذه
الحقيبة
ليست لي، لا أحد يصدقني . أوشكت الشمس أن تغيب عن أفق السماء ،
استبطأتها
سيدة البيت التي كانت تنتظرها كعادتها أول النهار ، لتنظف لها
مسكنها ،
وتعد لها مطبخها ، غير أنها عللت تأخرها بأن الخادمات ينتظمن في
أول الأمر ،
ويتمسكن ، ثم يبدأن في الاعوجاج كعادتهن .تصبرت الفتاة عن
تأخر أمها ساعة
بعد ساعة ، خرجت تمد بصرها هنا وهناك حتى كل بصرها
من طول المتابعة ، لعل
أمي تعبت عند سيدتها فعزمت على المبيت ، أو أنها
تأخرت فخشيت أن تعود وحدها
متأخرة ، رجعت الفتاة إلى البيت تكتم أنفاسها
ولا تكاد تبين ، كيف لها أن
تتكلم وأمها تعمل سرا لتوفر ضرورات الحياة ، فما
كان المعاش الذي تأخذه
بعد زوجها ليفي بما تحتاجانه ، لابد أن تغلق فمها
عساها أن تعود ، لم تنم ،
وكيف تنام دون أمها ومؤنستها في الدار ، شغلها
البكاء والتفكير وكادت تصرخ
لولا
خشيتها من الفضيحة ، وهي التي تعلمت من أمها الصبر ، ولطالما كانت
توصيها وتربيها على عزة النفس ، تذكرت تلك الورقةالبالية ، التي كتب فيها
عنوان تلك السيدة ورقم هاتفها ، لابديل إذن من أن أسر لأستاذتي التي تحبني
بما حدث ، أوشك نهار اليوم أن يتضح ، توجهت إلى المدرسة وفضت سرا
مرت عليه
ساعات تعدل السنين في طولها ، تعايشت معها المعلمة بفكرها
وحسها ووجدانها ،
انصرفت المعلمة برقم الهاتف بمنأى عن الفتاة ، لايشغل
السيدة شيئ سوى
مصلحتها فحسب ، أخبرت المعلمة بأنها لم تأت بالأمس ،
ولاحاجة لنا بها بعد
اليوم ،فأنا في استغناء عن خدماتها ، شكرتها المعلمة
وبدأت تطمئن الفتاة
حتى تزيل عنها شيئا من التوتر والاضطراب ، مصطحبة
إياها إلى بيتها حتى جاء
اليوم الثالث .
أذيعت عناوين الصحف في الإذاعة المدرسية ، وبعدها
تداول المعلمون الصحف
فإذا بأحدهم يقرأ خبر القبض على امرأة تحمل لفافة من
المخدرات إنها هي ،
كيف ذلك ؟ لاحول ولا قوة إلا بالله ، كنا نحسبها طيبة ،
صدق من قال : تحت
السواهي دواهي ، شاع الخبر ، والكل حوله ما بين مصدق
ومكذب ، وأغلب
الناس يميلون للشر في تأويلهم لما يسمعون ، وأنى لهم يحسنون
التأويل وقد
أخبرتهم الحكومة في صحفها ، كان وقع الخبرعلى الفتاة كالصاعقة ،
إنها أمها
التي لها في الحياة ، ليس لها سواها ، لا ، لا ،كذب من ادعى
عليها .
يالإنسانية تلك المعلمة ! ويا لعظمتها ورحمتها ! أظلمت الدنيا
، فكانت شمعة
تهدي ضالها ، وأجدبت القلوب من رائحة الرحمة ، فكانت بلسما ،
قضي الأمر ،
فكانت للفتاة أنسها ، وللأم دواءها وصبرها ، اتسع قلبها
النادر فكان للفتاة
ملاذا آمنا ، وراعيا أمينا ، ويوم أن تحقق الحلم الأكبر
للفتاة نبوغا وتفوقا ،
يوم كان الإفراج عن أمها براءة وشرفا ، ليبيت الأمل
في أحضان البراءة .
0 التعليقات
إرسال تعليق